يعيش
العالم بشتى اتجاهاته ، أجواء من نمط حياة لم يعهد أن يعيشها الملايين من البشر بل
والمليارات منهم ، هذه الأجواء الماطرة بالخوف والنحيب والرجاء والأمل هي القوقعة
التي باتت تغلق فكيها على رؤوس الناس ، لكنهم مع كل ما يعانونه من ضيم وتكسر
للعظام وإرهاق للجسد ونزع في الأرواح ، يعيشون على أمنيات ولدت من رحم الأيام
الحبلى بمنغصات لا يعرفون مدى انتهائها أو توقفها عن الإبادة الجماعية ، كل ما
يعرفونه الآن هو أن أحلامهم معلقة في قائمة الانتظار المؤجل ، ولا يزالون يرغبون
في أن تنتهي فضول روايتهم المرعبة لينعموا برغد الحياة وطيب الإقامة في ديارهم .
شهور
تجر شهورًا أخرى ، والوجع لا يزال يسكن بقاع الأرض ، والقلوب ترتجف خوفا وحزنا على
من فقدنا ، أو من سنفقد عما قريب ، لقد قطعت الجائحة شرايين الوصل بين الشعوب ،
وأصبح البسطاء في بعض الأحياء السكنية في تعداد الأموات ، مسميات أصبحوا يعرفونها
، ومسببات تظهر وتختفي من بعيد ، ولكن يبقى " الفيروس المستجد " حاضرا
في تفاصيل القصص الحزينة ، والنهايات التي يسطرها الأطباء في تقارير أسباب الوفيات
كل يوم . يتنفس العالم كل صباح من رئة يخشى أن تصاب هي الأخرى بعد قليل ، فتتمرد
على طبيعتها التي وجدت من أجلها ، وتعلن التوقف عن العمل إلى ما لا نهاية ، أننا
نسير في أرض مليئة بالأشواك والحفر العميقة منذ أن بزغ فجر نهار لا نعرف متى تغيب
شمسه ، كل الظروف المحيطة بالبشرية يمكن أن نسميها " ظروفا طارئة واستثنائية
" لأنهم لم يتذوقوا طعمها منذ أن ولدوا على هذه الأرض ، ولذا فإن كل التدابير
والقوانين الكثيرة التي تم تشريعها على عجل هي رباط خانق يضغط على كل أوصال في
سبيل الخروج من عنق هذه الزجاجة البلورية ، فالكل يحب أن يتجرع ألم النفاذ إلى
الحرية والعيش بسلام بعيدا عن مرض لم يكشف عن سببه أو مصدره الحقيقي رغم مرور شهر
طويلة .
وحتى
يمكن السيطرة على تحركات البشر ومساعدتهم في عدم انتقال العدوى وانتشار واسع لهذه
الجائحة كان لابد من اتخاذ إجراءات أكثر حزما وقوة حتى لا تفقد الأوطان شبابها
وخبراتها .
عندما
نوشك أن ننام كعادتنا كل ليلة ، يأتينا نبأ آخر يقلق مضجعنا ، ويسلب أجفاننا لذة
النوم ، ويحرمنا من التمتع بسكون الكائنات ، منذ ليالي قريبة تم الإعلان في إحدى الدول
الآسيوية بأن هناك تحورا لافتا تم صباحا ما بين السلالات الفيروسية لتكون أكثر
فتكا واتحادا على الإيقاع بالضحايا .
أصبحت
الأشياء لا ترى ولا تدرك ، وكأن ستار الليل هو مصنعها ومنشأها ، لتكون أكثر قوة من
أي وقت آخر ، ونحن كبشؤ ضعفاء علينا أن نواجه المصير بتقبل تام ، والاستعداد طيلة
الليل بدلا من السكون إلى الراحة . لم أر في حياتي تعب تواجهه البشرية كهذه الأيام
، كل شىء يتغير من لحظة غلى أخرى ، هذا الارتفاع والانخفاض يذكرنا بفضول رجال الاقتصاد
ومراقبتهم واهتمامهم اليومي بأسهمهم المتداولة في البورصات العالمية ، لكنه الآن
أصبح يذكرنا بأي انخفاض أو ارتفاع بالكارثة سواء في أعداد الإصابات او الوفيات ،
فكل يوم هناك رقم جديد يضاف إلى السجلات الرسمية ، وغيرها من الأرقام التي لا تدرج
ولا يبلغ عنها ، وإنما تسقط كسقوط اصحابها في حفرهم الصغيرة بعيدا عن الأعين أو
المختصين بمتابعة الوباء ، أصبحنا ندرك بأن هناك خوفا آخر يتشكل في الأفق ،
وسيأتينا قريبا جدا ، لا نعلم مداه ولا قوة تحمل أجسادنا لشره .
في
رصد التغيرات التي هي في طريقها إليك ؟ حتما ستضعف قدرتك على المواجهة ، وربما تكون
سببا في تدهور حالتك النفسية والصحية في سرعة متناهية وهنا تكمن الخطورة في هذا
الأمر .
المرض
هو الضعف الذي يجتاح البشر ، فمع قوته تنخفض كل مؤشرات تقبل الحياة ، ومع صعوبة
المواجهة لهذا الفيروس والحرب التي تنشب وتدور رحاها في جسدك قد يصل بك التفكير
نحو المناطق المعتمة التي لا ترى أي بادرة طيبة نحو الشفاء ، ولا تجد أي ضوء يخبرك
بأنك سوف تنجو من قبضته ، أو تشعر بالراحة لمجرد أن ينام هذا الذي يهاجم جسدك
ويتركك بدون ألم ، علامات الاستسلام تطلقها منذ البداية فأنت لا تستطيع الإمساك
بهذا الوحش المختبئ تحت قناعة فيروس صغير لا يمكن رؤيته بالعين المجردة أو مقارعته
وجها لوجه .
يبقى
لك وسيلة واحدة لتكون قويا أثناء فترة الحرب الدائرة في جسدك ، وهي أن تسلم أمرك
لله وحده ، وان تتجلد قدر المستطاع حتى يكتب الله لك أمرا كان مفعولا . كل الذين
ينامون الآن في غرف العناية المركزة ، والغائبون عن الوعي أو الذين يتألمون بقوة
في أجنحة التنويم أو المحجورين في منازلهم بعيدا عن أهلهم وذويهم ، يحملون في
عقولهم وقلوبهم أشياء لم يألفوا وجودها في يوم من الأيام ، بعضهم يحدث نفسه هل
سأنجو أم لا ؟! أكثر الأشياء التي تستحضرك في هذه اللحظات العصبية هم أقرب الناس
إليك " عائلتك " لا تستطيع أن تصنع شيئا ليجعلهم يفرحون برجوعك إليهم ، وربما
الذي لا يزال يتحرك في جسدك هو عيناك بعد أن عطبت كل الأجزاء الأخرى عن العمل ،
فبعينك تسجل كل ما تراه من أشياء تحيط بك ، وأذنك التي تسمع أصوات كنت قد سمعتها
يوما ، عندما قمت بزيارة خاطفة لأحد المرضى في المستشفيات .
الوقت
الذي يمر عليك وأنت في فراش المرض ، لا يمكن أن تحسبه بالدقائق والساعات ، بل
تحسبه لوحدك بالسنوات ، فكلما يمضي نهار يأتي آخر ، كلما تقول بأنك لم تتعرف على
ساعات الليل لأنك لم تنام ولو للحظات قليلة ، تظن بأنك لا تزال تعيش ساعات النهار
، والاختلاط المتتالي ما بين النهار والليل كذلك يصنع في ذهنك اختلاط آخر في حساب
الزمن الذي أنت فيه .
كل
الأشياء التي صنعتها في حياتك سواء الوجه المنير أو القبيح سوف تتذكرها وسوف تتحسر
على زمنك الذي ولى وانقضى ، رغم أن بعض المرضى سيقول : إن الوضع الذي وصلت إليه لا
يحتمل فتح الذكريات ، لكن الكثير من الناس ينتابه الخوف والجزع من المصير الذي لا
يعرف عنه شىء والمضحك المبكي أن الإنسان الذي يكتب الله له النجاة ينسى أكثر
اللحظات الصعبة التي مرت عليه ، وقد لا يتعظ أو يتراخى ويتواضع ويعرف حجمه في
الدنيا .
منذ
أن قبرنا أحد الأصدقاء ونحن أكثر انتظارا لمصير يكون مشابها له ، لسنا متشائمين من
حياتنا ، لكن يجب علينا أن ندرك بأن هذا الطريق مسلكه واحد ، وقد وجد ليكون هناك
دائما الجديد في عالم الأحياء أو الأموات .
يقولون
: " من رأى مصيبة غيره هانت عليه مصيبته " وهذا يقودنا إلى المشاهد
اليومية التي تحدث في العالم نتيجة الوباء العالمي الذي يضرب الدول ويفني الأرواح
ويبلي الأجساد ، دون أن يكون هناك غير الأمل والانتظار أن تخف حدته وقوته في
العالم ، ولذا ليس لنا لا أن نردد كما قال الشاعر الطغراني في إحدى قصائده الشهيرة
" علل النفس بالآمال أرقبها .. ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل .. لم أرتض
العيش والأيام مقبلة ... فكيف أرضى وقد ولت على عجل "
"
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل " بقلم علي بن عباس البلوشي
تعليقات
إرسال تعليق