القائمة الرئيسية

الصفحات

" ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل "

 

يعيش العالم بشتى اتجاهاته ، أجواء من نمط حياة لم يعهد أن يعيشها الملايين من البشر بل والمليارات منهم ، هذه الأجواء الماطرة بالخوف والنحيب والرجاء والأمل هي القوقعة التي باتت تغلق فكيها على رؤوس الناس ، لكنهم مع كل ما يعانونه من ضيم وتكسر للعظام وإرهاق للجسد ونزع في الأرواح ، يعيشون على أمنيات ولدت من رحم الأيام الحبلى بمنغصات لا يعرفون مدى انتهائها أو توقفها عن الإبادة الجماعية ، كل ما يعرفونه الآن هو أن أحلامهم معلقة في قائمة الانتظار المؤجل ، ولا يزالون يرغبون في أن تنتهي فضول روايتهم المرعبة لينعموا برغد الحياة وطيب الإقامة في ديارهم .

 


" ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل "


 

شهور تجر شهورًا أخرى ، والوجع لا يزال يسكن بقاع الأرض ، والقلوب ترتجف خوفا وحزنا على من فقدنا ، أو من سنفقد عما قريب ، لقد قطعت الجائحة شرايين الوصل بين الشعوب ، وأصبح البسطاء في بعض الأحياء السكنية في تعداد الأموات ، مسميات أصبحوا يعرفونها ، ومسببات تظهر وتختفي من بعيد ، ولكن يبقى " الفيروس المستجد " حاضرا في تفاصيل القصص الحزينة ، والنهايات التي يسطرها الأطباء في تقارير أسباب الوفيات كل يوم . يتنفس العالم كل صباح من رئة يخشى أن تصاب هي الأخرى بعد قليل ، فتتمرد على طبيعتها التي وجدت من أجلها ، وتعلن التوقف عن العمل إلى ما لا نهاية ، أننا نسير في أرض مليئة بالأشواك والحفر العميقة منذ أن بزغ فجر نهار لا نعرف متى تغيب شمسه ، كل الظروف المحيطة بالبشرية يمكن أن نسميها " ظروفا طارئة واستثنائية " لأنهم لم يتذوقوا طعمها منذ أن ولدوا على هذه الأرض ، ولذا فإن كل التدابير والقوانين الكثيرة التي تم تشريعها على عجل هي رباط خانق يضغط على كل أوصال في سبيل الخروج من عنق هذه الزجاجة البلورية ، فالكل يحب أن يتجرع ألم النفاذ إلى الحرية والعيش بسلام بعيدا عن مرض لم يكشف عن سببه أو مصدره الحقيقي رغم مرور شهر طويلة .

 

 

 

وحتى يمكن السيطرة على تحركات البشر ومساعدتهم في عدم انتقال العدوى وانتشار واسع لهذه الجائحة كان لابد من اتخاذ إجراءات أكثر حزما وقوة حتى لا تفقد الأوطان شبابها وخبراتها .

عندما نوشك أن ننام كعادتنا كل ليلة ، يأتينا نبأ آخر يقلق مضجعنا ، ويسلب أجفاننا لذة النوم ، ويحرمنا من التمتع بسكون الكائنات ، منذ ليالي قريبة تم الإعلان في إحدى الدول الآسيوية بأن هناك تحورا لافتا تم صباحا ما بين السلالات الفيروسية لتكون أكثر فتكا واتحادا على الإيقاع بالضحايا .

أصبحت الأشياء لا ترى ولا تدرك ، وكأن ستار الليل هو مصنعها ومنشأها ، لتكون أكثر قوة من أي وقت آخر ، ونحن كبشؤ ضعفاء علينا أن نواجه المصير بتقبل تام ، والاستعداد طيلة الليل بدلا من السكون إلى الراحة . لم أر في حياتي تعب تواجهه البشرية كهذه الأيام ، كل شىء يتغير من لحظة غلى أخرى ، هذا الارتفاع والانخفاض يذكرنا بفضول رجال الاقتصاد ومراقبتهم واهتمامهم اليومي بأسهمهم المتداولة في البورصات العالمية ، لكنه الآن أصبح يذكرنا بأي انخفاض أو ارتفاع بالكارثة سواء في أعداد الإصابات او الوفيات ، فكل يوم هناك رقم جديد يضاف إلى السجلات الرسمية ، وغيرها من الأرقام التي لا تدرج ولا يبلغ عنها ، وإنما تسقط كسقوط اصحابها في حفرهم الصغيرة بعيدا عن الأعين أو المختصين بمتابعة الوباء ، أصبحنا ندرك بأن هناك خوفا آخر يتشكل في الأفق ، وسيأتينا قريبا جدا ، لا نعلم مداه ولا قوة تحمل أجسادنا لشره .

 

 

في رصد التغيرات التي هي في طريقها إليك ؟ حتما ستضعف قدرتك على المواجهة ، وربما تكون سببا في تدهور حالتك النفسية والصحية في سرعة متناهية وهنا تكمن الخطورة في هذا الأمر .

المرض هو الضعف الذي يجتاح البشر ، فمع قوته تنخفض كل مؤشرات تقبل الحياة ، ومع صعوبة المواجهة لهذا الفيروس والحرب التي تنشب وتدور رحاها في جسدك قد يصل بك التفكير نحو المناطق المعتمة التي لا ترى أي بادرة طيبة نحو الشفاء ، ولا تجد أي ضوء يخبرك بأنك سوف تنجو من قبضته ، أو تشعر بالراحة لمجرد أن ينام هذا الذي يهاجم جسدك ويتركك بدون ألم ، علامات الاستسلام تطلقها منذ البداية فأنت لا تستطيع الإمساك بهذا الوحش المختبئ تحت قناعة فيروس صغير لا يمكن رؤيته بالعين المجردة أو مقارعته وجها لوجه .

 

 

يبقى لك وسيلة واحدة لتكون قويا أثناء فترة الحرب الدائرة في جسدك ، وهي أن تسلم أمرك لله وحده ، وان تتجلد قدر المستطاع حتى يكتب الله لك أمرا كان مفعولا . كل الذين ينامون الآن في غرف العناية المركزة ، والغائبون عن الوعي أو الذين يتألمون بقوة في أجنحة التنويم أو المحجورين في منازلهم بعيدا عن أهلهم وذويهم ، يحملون في عقولهم وقلوبهم أشياء لم يألفوا وجودها في يوم من الأيام ، بعضهم يحدث نفسه هل سأنجو أم لا ؟! أكثر الأشياء التي تستحضرك في هذه اللحظات العصبية هم أقرب الناس إليك " عائلتك " لا تستطيع أن تصنع شيئا ليجعلهم يفرحون برجوعك إليهم ، وربما الذي لا يزال يتحرك في جسدك هو عيناك بعد أن عطبت كل الأجزاء الأخرى عن العمل ، فبعينك تسجل كل ما تراه من أشياء تحيط بك ، وأذنك التي تسمع أصوات كنت قد سمعتها يوما ، عندما قمت بزيارة خاطفة لأحد المرضى في المستشفيات .

 

 

الوقت الذي يمر عليك وأنت في فراش المرض ، لا يمكن أن تحسبه بالدقائق والساعات ، بل تحسبه لوحدك بالسنوات ، فكلما يمضي نهار يأتي آخر ، كلما تقول بأنك لم تتعرف على ساعات الليل لأنك لم تنام ولو للحظات قليلة ، تظن بأنك لا تزال تعيش ساعات النهار ، والاختلاط المتتالي ما بين النهار والليل كذلك يصنع في ذهنك اختلاط آخر في حساب الزمن الذي أنت فيه .

كل الأشياء التي صنعتها في حياتك سواء الوجه المنير أو القبيح سوف تتذكرها وسوف تتحسر على زمنك الذي ولى وانقضى ، رغم أن بعض المرضى سيقول : إن الوضع الذي وصلت إليه لا يحتمل فتح الذكريات ، لكن الكثير من الناس ينتابه الخوف والجزع من المصير الذي لا يعرف عنه شىء والمضحك المبكي أن الإنسان الذي يكتب الله له النجاة ينسى أكثر اللحظات الصعبة التي مرت عليه ، وقد لا يتعظ أو يتراخى ويتواضع ويعرف حجمه في الدنيا .

منذ أن قبرنا أحد الأصدقاء ونحن أكثر انتظارا لمصير يكون مشابها له ، لسنا متشائمين من حياتنا ، لكن يجب علينا أن ندرك بأن هذا الطريق مسلكه واحد ، وقد وجد ليكون هناك دائما الجديد في عالم الأحياء أو الأموات .

 

يقولون : " من رأى مصيبة غيره هانت عليه مصيبته " وهذا يقودنا إلى المشاهد اليومية التي تحدث في العالم نتيجة الوباء العالمي الذي يضرب الدول ويفني الأرواح ويبلي الأجساد ، دون أن يكون هناك غير الأمل والانتظار أن تخف حدته وقوته في العالم ، ولذا ليس لنا لا أن نردد كما قال الشاعر الطغراني في إحدى قصائده الشهيرة " علل النفس بالآمال أرقبها .. ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل .. لم أرتض العيش والأيام مقبلة ... فكيف أرضى وقد ولت على عجل "

 

 

 

" ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل " بقلم علي بن عباس البلوشي

 

  

reaction:

تعليقات